الحياة و الكلاب و أشياء أخرى - ابراهيم منيب المومني

شارك:



الحياة و الكلاب و أشياء أخرى..
أراد لهذه الأحزان الصغيرة المؤقتة ان تكون مثالية تماما، لكنه كان يعجز، فيصير لنفسه ممثلا فاشلا او مهرجا حقيرا ، حتى حين توفي صديقه المقرب دهسا ، لم يكن مشبعا بالحزن تماما، و كانت دمعته بعيدة و صلبة و عصية على النزول، لكنه إعتصرها، و خنقها حتى نزلت باردة زجاجية...
كان إسم صديقه محمود، و كان صديقه المقرب الوحيد، و بئر أسراره، و إنعكاسا صريحا لما ما لا يريد اي شاب عشريني ان يكونه، و قد كان محمود مهتما جدا بعلوم الأدب و الفلسفة، و لم ينظر للحياة إلا على انها ورطة حقيقية و  امر مفروض لا مناص منه،  لكنه كان دائم التبسم، و كثير التدخين،  يشرب كثيرا، و كان صاخبا، و صاحب نكتة، و لا يؤمن بالحب العذري ، و ينظم الشعر، و يعتاش من الكتابة في الجرائد، و يحب التين و الدخان الرخيص و جارته المتزوجة..
كان يجلس في اواخر النهار على الشرفة المنداة برطوبة الغروب وحيدا ، يلوح للسحابات الممزوجة بغبار المدينة، و كان يرود بحزن يختبئ خلف الابتسامة الكمونية   :
يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما بايدينا خلقنا تعساء..
و يجترع كأس العرق دفعة واحدة.
محمود القى بنفسه امام سيارة "ڤولڤو" زرقاء مسرعة  ، كان قد اوصى لصديقه بكتبه و دفاتره، و اطنان من الاوراق و القصاصات و الرسومات المتراصة في اكوام عدة، و كان قد اخبر صديقه عن عزمه الانتحار في الغد، و انه يفضل الموت موتا احتفاليا صاخبا يراه الناس فيتجمعون حوله، و يتحلقون حوله  "كالدبيكة" في الاعراس ، لكن الصديق لم يقل شيئا، بل تجهم و حك عفرته..
كان محمود يحب السير حتى المدى ، و يعشق نهايات الاشياء، و يحب ذروة الأمور، و لم تعجبه الاحداث الهادئة بل أحب صخب الحياة و فتنه جنونها، و حين دهسته السيارة طار الى اعلى، الى فوق.. و الارجح انه رأى سائق السيارة و هو يلطم، و رأى عامل المطعم و هو ينظر و يتحسر، و رأى طفلتين تتشاجران على كوز صنوبر، و رأى كلبا يطارد قطة في زقاق الحي المقابل، و لا بد ان محمود قد اخرج لسانه ساخرا من الناس..
ثم مات، قبل ان ترتطم رأسه بحافة الشارع
**
تلقى صديق محمود  - بعد ان ورث الهاتف و المروحة و السرير  - هاتفا من الجريدة التي كان يعتاش من كتابة عمود اسبوعي فيها، اخبرهم انه قد مات، فأبلغوه تعازي الجريدة..

في اليوم التالي صدرت الجريدة،   كان عمود محمود موجودا، و منسوبا له..، كانت قصيدة غرامية بعنوان : السمراء و زوجها السافل..
و في الاسبوع الذي تلاه كذلك..، رباعيات تحت إسم : انا و الفاتنة و كلاب الحي..
تلاها سلسلة من النثر الشعري  بعنوان  : السمراء تضاجع كلاب المدى..
تكرر الأمر لشهور، دفعت الصديق لزيارة الجريدة ليتحرى عن الموضوع، سأله عن الموضوع فأخرج المحرر كومة من الاوراق ، أخبره ان محمود اورث عشيقته المتزوجة كومتين من الاشعار، و ان العشيقة باعتها للجريدة، مضغ الصديق شاربه و خرج من المبنى.
في اليوم التالي عاد الصديق محملا باكوام من الاوراق المتفرقة ، و كانت مجمعة في  رزم و "دوسيهات" ثقيلة أحنت ظهره و صبت عرقه على درج المبنى  ، سأله المحرر عن محتوى الاوراق، فقال الصديق : اوراق و "دوسيهات" معنونة ..
_ ما هي العناوين..
_ الحياة 1، الحياة 2، كيف ارى الدنيا، الحياة و انا، انا و الحياة و الكلاب .. تسعة "دوسيهات" .
همهم المحرر، و قال بعد أن حك ذقنه بخشونة : طيب.. طيب..
تقاضى الصديق ثمن الأوراق و قفل عائدا الى البيت بهدوء رصين و نظرة براقة.

ليست هناك تعليقات